أدت التطورات الأخيرة المتعلقة بتوقيع خمس من دول منابع النيل، إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وكينيا، على الاتفاق الإطارى الخاص باستخدامات مياه النهر، وما أشيع حول إمكانية تأثير ذلك على حصة كل من مصر والسودان من هذه المياه، إلى إثارة تساؤلات عديدة، تدور بشكل أو بآخر حول نقاط الاختلاف التى أدت إلى عدم الوصول إلى توافق بين جميع دول الحوض بشأن هذا الاتفاق من جانب، وحول القيمة القانونية لهذا الاتفاق ومدى ما يمكن أن يترتب عليه من آثار على حقوق مصر والسودان من جانب ثان، كما تدور من جانب ثالث حول الأسانيد القانونية التى تدعم الموقف المصرى السودانى فى هذا الصدد.
ومع التسليم بأن الخلاف بين دول المنابع ودولتى المصب ليس خلافا قانونيا بالأساس، وإنما هو خلاف ذو طبيعة سياسية ومصلحية غالبة، ومن ثم فإن الوصول إلى حل بصدده يستدعى جملة من الوسائل السياسية والاقتصادية التى تحقق المصالح المشتركة لجميع دول الحوض. فإنه يبقى من الأهمية بمكان أن نشير فى هذا المقال إلى بعض عناصر القوة القانونية التى تدعم الموقف المصرى السودانى، وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات الثلاثة آنفة الذكر، مع ترك الحديث عن سواها ربما لمقال لاحق.
وفيما يتعلق بالتساؤل الأول الخاص بنقاط الاختلاف التى أدت إلى عدم الاتفاق حول مشروع الاتفاقية الإطارية، فإنها تنحصر فى ثلاث نقاط أساسية. تدور أولاها حول ما يعرف بالأمن المائى، وهو ما خصصت له المادة 14B من المشروع. حيث أصرت مصر والسودان على وجوب إيراد نص فى هذا الجزء يحفظ لها حقوقها المقررة فى الاتفاقات القائمة، باعتبار أن موافقتها على هذه الاتفاقية دون مثل هذا النص سيعنى، إعمالا لقاعدة أن اللاحق يجبُّ السابق، أنها قد قبلت التنازل عن الاتفاقيات القائمة بالفعل والتى تضمن لها حقوقها من الناحية القانونية، دون أن تحصل فى مقابل ذلك على أى شىء يضمن لها هذه الحقوق المستقرة. أما الثانية فتدور حول ما يعرف فى قواعد القانون الدولى المنظمة لاستخدام الأنهار الدولية بمبدأ التشاور والإخطار المسبق، وهو مبدأ مستقر تماما فى الفقه والقضاء والممارسة الدولية.
ومؤداه أن ثمة التزام على عاتق الدول المشتركة فى نهر دولى واحد أن تخطر الدول التالية لها فى مجرى النهر بأية أعمال أو إنشاءات تزعم القيام بها على مجرى النهر وتتشاور معها فى هذا الشأن، خوفا من أن تؤثر هذه الأعمال على حقوق ومصالح الدول التالية، وهما مصر والسودان هنا بداهة. وقد تمسكت مصر والسودان بهذا المبدأ المستقر، وأصرتا على وجوب النص عليه فى مواد المشروع، حتى لا تفاجأ إحداهما بأعمال أو إنشاءات على مجرى النهر فى دول المنابع تؤثر فى كمية أو نوعية أو مواعيد وصول المياه إليها.
أما نقطة الاختلاف الثالثة فتدور حول مسالة الأغلبية المطلوبة لتعديل الاتفاق أو أى من ملاحقه، فعلى حين أصرت دول المنابع على أن تكون الموافقة على هذه التعديلات بالأغلبية البسيطة، وهو ما يعنى من الناحية القانونية ــ بداهة ــ إمكانية قيامها، وهى التى تملك سبعة أصوات مقابل صوتين فقط لدولتى المصب، بتعديل الاتفاق أو أى من ملاحقه فى أى وقت تشاء. أصرت مصر والسودان على وجوب أن يكون القبول بمثل هذه التعديلات بالتوافق العام، أى دون اعتراض من أى من الأطراف، أو بأغلبية موصوفة يكون من بين أطرافها دولتا المصب. وهو أمر منطقى فى ضوء أن تباين المصالح الحال أو المحتمل بين دول المنابع ودولتى المصب سيسمح للأولى متى أرادت، حال الأخذ بالأغلبية البسيطة أن تعدل الاتفاق متى أرادت.
أما فيما يتعلق بالتساؤل الثانى الخاص بالقيمة القانونية للاتفاق الذى وقعت عليه الدول الخمس، ومدى تأثيره على حقوق مصر والسودان. فمن المسلم به قانونا أن الاتفاقات الدولية لا تلزم إلا أطرافها، ولا تمتد آثارها إلى غير هؤلاء الأطراف إلا فى أحوال استثنائية للغاية ترتب فيها حقوقا ــ وليس التزامات ــ لهذا الغير، وذلك إعمالا لمبدأ نسبية آثار المعاهدات، وهو واحد من أهم المبادئ المستقرة فى القانون الدولى للمعاهدات.
ومن ثم فإن اتفاق الدول الخمس، بفرض اكتماله قانونا بتصديق الأجهزة الداخلية المختصة فى هذه الدول عليه، لن يكون ملزما إلا لهذه الدول فقط، ولن تمتد آثاره القانونية بأى شكل من الأشكال إلى مصر أو السودان، كما أنه لن يؤثر على الاتفاقات القائمة المنظمة لاستخدام مياه النيل نظرا لاختلاف الأطراف فى هذه الاتفاقات عن أطراف الاتفاق الجديد.
أما فيما يتعلق بالتساؤل الثالث الخاص بالأسانيد التى تدعم الموقف المصرى السودانى فى هذا الصدد، فلعل أهمها ما يتعلق بالحقوق التاريخية المكتسبة والاتفاقات القائمة. ولقد جاء تمسك مصر والسودان بنص المادة 14B سالفة الإشارة، والتى تتحدث عن «الأمن المائى» والاستخدامات الحالية باعتبار أن ذلك يمثل البديل الوحيد المقبول للنص على «الحقوق التاريخية المكتسبة» التى تكفلها للدولتين جميع الاتفاقيات الخاصة بنهر النيل. وحتى لا يفهم من توقيع مصر والسودان على الاتفاقية دون هذا النص أنه تنازل منهما عن الاتفاقيات السابقة والتى تؤكد على هذه الحقوق.
والواقع أن التاريخ يعد عنصرا أساسيا من عناصر الحق فى استغلال مياه الأنهار الدولية، وذلك من خلال النظر إلى الطرق التى تم بها اقتسام وتوزيع حصص المياه بين الدول المعنية خلال حقب التاريخ السابقة. والحق التاريخى فى مياه النهر هو ولاية معينة لدولة ما فى أن تحصل على أو تستعمل كمية من المياه وأن تحافظ على الحصول على تلك الكمية على الدوام وفقا لما جرى عليه التوزيع السابق والمستقر طالما بقيت الظروف والأوضاع على حالها. وهى قاعدة عرفية جرى عليها العمل الدولى من أزمان طويلة.
والدول وفقا لهذه القاعدة ملزمة باحترام حقوق بعضها البعض فى مياه الأنهار الدولية بنفس القدر أو الكمية أو الحصة السنوية التى اعتادت الحصول عليها منذ استقر السكان على ضفاف النهر. ومرد ذلك أن هؤلاء السكان اعتادوا على حياة معينة قوامها مياه النهر وأن أى تغيير فى هذه الكمية نحو النقص يؤدى بالضرورة إلى اضطراب فى حياتهم، الأمر الذى قد يهدد السلم والأمن الدوليين فى حالة ما إذا أدى إلى احتكاك بين الدول والشعوب فى هذا الشأن.
ومن ثم فإن التوزيع السابق للمياه (الحقوق التاريخية) يجب أن يحترم وأن تتم المحافظة عليه لأن مرور وقت طويل على هذا التوزيع ورضا الدول المشاطئة به يعبر عن المساواة فى معناها الحقيقى وعن التوزيع العادل والمنصف فعلا لهذه المياه.
والحق أن مبدأ «الحقوق التاريخية» هذا هو من المبادئ المستقرة فى القانون الدولى، حيث أكدت عليه على سبيل المثال كل من قواعد هلسنكى 1966 فى مادتها الخامسة، واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 فى مادتها السادسة، وقواعد برلين 2004 فى مادتها الثالثة عشرة. كما جرى القضاء الدولى والقضاء فى الدول الاتحادية على الأخذ به، سواء فيما يتعلق باكتساب الإقليم والسيادة عليه (فى البر والبحر)، أو فيما يتعلق بحقوق الاستخدام والاستغلال، ما دامت قد توافرت فيه شروط الظهور وطول المدة وعدم اعتراض ذوى المصلحة.
وهى الشروط التى انتهت إليها محكمة العدل الدولية فى حكمها فى قضية المصائد النرويجية لعام 1951حين قررت أن ثمة شروطا ثلاثة يتعين توافرها للاعتداد بهذه الحقوق، وهى وجود ممارسة ظاهرة ومستمرة للحق، يقابلها موقف سلبى من الدول الأخرى صاحبة المصلحة، مع استمرار هذا الموقف السلبى لفترة زمنية كافية لاستخلاص قرينة التسامح أو الرضا العام. ويبين هذا المبدأ الكيفية التى ارتضتها الدول المشاطئة للنهر الدولى فى اقتسام مياهه على مدى تاريخها، وهو ما يعد أمرا شديد الأهمية لتحقيق السلم والأمن الدوليين لصلته الوثيقة بالمصالح المباشرة للدول التى تعتمد على مياه الأنهار الدولية فى نموها الاقتصادى والاجتماعى.
والواقع أن تمسك مصر والسودان بحقوقهما التاريخية فى مياه النيل ليس مرده إلى ما ورد بشأن هذه الحقوق فى اتفاقيات نهر النيل، لاسيما اتفاقيتى 1929 و1959، فحسب وإنما هو أبعد من ذلك بكثير. فمرده أساسا إلى استعمال ظاهر لمياه النيل لآلاف السنين لا يعوقه عائق على الإطلاق، قامت عليه أقدم حضارة فى التاريخ دون وجود بديل حقيقى له، ودونما اعتراض من أى أحد كان مقيما طوال هذه الآلاف من السنين على ضفاف النهر، سيما وأن المقيمين عليها خارج مصر كانوا بغير حاجة إليها لإفراط المطر حيث يقيمون. وبالتالى فإن تمسك مصر، ومعها السودان، بهذه الحقوق ليس تمسكا بما ورد فى شأنها فى اتفاقيات النهر وإنما هو تمسك بحق ثابت منذ آلاف السنين، لم تنشئه الاتفاقات القائمة وإنما كشفت عنه فحسب.
وتجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أنه ليس من المنطق فى شىء أن تتفق الدول الأفريقية حديثة العهد بالاستقلال فى أوائل الستينيات من القرن الماضى عند إنشائها لمنظمة الوحدة الأفريقية على التسليم بالحدود المتوارثة عن الاستعمار بالرغم مما بها من عيوب وتشوهات، حفاظا على الاستقرار فى العلاقات الدولية، ثم تثير بعض دول حوض النيل مسألة أن اتفاقات النهر هى اتفاقات استعمارية وأنها بالتالى غير ملزمة بها، متناسية أن حقوق مصر فيها ليس مردها إلى هذه الاتفاقات فحسب، وإنما إلى استعمال دائم ومستمر وظاهر ومستقر لآلاف السنين السابقة.
وأن الحديث عنها يهدد فعلا الاستقرار والعلاقات بين دول الحوض. فضلا عن أن اتفاقات الحدود والاتفاقات المنظمة لأوضاع إقليمية وذات الطبيعة العينية ــ كاتفاقات نهر النيل ــ تنتفى إمكانية التحلل منها قانونا استنادا إلى دعاوى التغير الجوهرى للظروف أو القول بمبدأ الصفحة النظيفة الذى تمسكت به الدول حديثة العهد بالاستقلال، وهو ما أوردته بوضوح كامل كل من اتفاقية فيينا بشأن قانون المعاهدات لعام 1969، واتفاقية الأمم المتحدة للتوارث الدولى فى المعاهدات لعام 1978، وهو ما قد يكون موضوعا لمقال مستقل.
ومع التسليم بأن الخلاف بين دول المنابع ودولتى المصب ليس خلافا قانونيا بالأساس، وإنما هو خلاف ذو طبيعة سياسية ومصلحية غالبة، ومن ثم فإن الوصول إلى حل بصدده يستدعى جملة من الوسائل السياسية والاقتصادية التى تحقق المصالح المشتركة لجميع دول الحوض. فإنه يبقى من الأهمية بمكان أن نشير فى هذا المقال إلى بعض عناصر القوة القانونية التى تدعم الموقف المصرى السودانى، وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات الثلاثة آنفة الذكر، مع ترك الحديث عن سواها ربما لمقال لاحق.
وفيما يتعلق بالتساؤل الأول الخاص بنقاط الاختلاف التى أدت إلى عدم الاتفاق حول مشروع الاتفاقية الإطارية، فإنها تنحصر فى ثلاث نقاط أساسية. تدور أولاها حول ما يعرف بالأمن المائى، وهو ما خصصت له المادة 14B من المشروع. حيث أصرت مصر والسودان على وجوب إيراد نص فى هذا الجزء يحفظ لها حقوقها المقررة فى الاتفاقات القائمة، باعتبار أن موافقتها على هذه الاتفاقية دون مثل هذا النص سيعنى، إعمالا لقاعدة أن اللاحق يجبُّ السابق، أنها قد قبلت التنازل عن الاتفاقيات القائمة بالفعل والتى تضمن لها حقوقها من الناحية القانونية، دون أن تحصل فى مقابل ذلك على أى شىء يضمن لها هذه الحقوق المستقرة. أما الثانية فتدور حول ما يعرف فى قواعد القانون الدولى المنظمة لاستخدام الأنهار الدولية بمبدأ التشاور والإخطار المسبق، وهو مبدأ مستقر تماما فى الفقه والقضاء والممارسة الدولية.
ومؤداه أن ثمة التزام على عاتق الدول المشتركة فى نهر دولى واحد أن تخطر الدول التالية لها فى مجرى النهر بأية أعمال أو إنشاءات تزعم القيام بها على مجرى النهر وتتشاور معها فى هذا الشأن، خوفا من أن تؤثر هذه الأعمال على حقوق ومصالح الدول التالية، وهما مصر والسودان هنا بداهة. وقد تمسكت مصر والسودان بهذا المبدأ المستقر، وأصرتا على وجوب النص عليه فى مواد المشروع، حتى لا تفاجأ إحداهما بأعمال أو إنشاءات على مجرى النهر فى دول المنابع تؤثر فى كمية أو نوعية أو مواعيد وصول المياه إليها.
أما نقطة الاختلاف الثالثة فتدور حول مسالة الأغلبية المطلوبة لتعديل الاتفاق أو أى من ملاحقه، فعلى حين أصرت دول المنابع على أن تكون الموافقة على هذه التعديلات بالأغلبية البسيطة، وهو ما يعنى من الناحية القانونية ــ بداهة ــ إمكانية قيامها، وهى التى تملك سبعة أصوات مقابل صوتين فقط لدولتى المصب، بتعديل الاتفاق أو أى من ملاحقه فى أى وقت تشاء. أصرت مصر والسودان على وجوب أن يكون القبول بمثل هذه التعديلات بالتوافق العام، أى دون اعتراض من أى من الأطراف، أو بأغلبية موصوفة يكون من بين أطرافها دولتا المصب. وهو أمر منطقى فى ضوء أن تباين المصالح الحال أو المحتمل بين دول المنابع ودولتى المصب سيسمح للأولى متى أرادت، حال الأخذ بالأغلبية البسيطة أن تعدل الاتفاق متى أرادت.
أما فيما يتعلق بالتساؤل الثانى الخاص بالقيمة القانونية للاتفاق الذى وقعت عليه الدول الخمس، ومدى تأثيره على حقوق مصر والسودان. فمن المسلم به قانونا أن الاتفاقات الدولية لا تلزم إلا أطرافها، ولا تمتد آثارها إلى غير هؤلاء الأطراف إلا فى أحوال استثنائية للغاية ترتب فيها حقوقا ــ وليس التزامات ــ لهذا الغير، وذلك إعمالا لمبدأ نسبية آثار المعاهدات، وهو واحد من أهم المبادئ المستقرة فى القانون الدولى للمعاهدات.
ومن ثم فإن اتفاق الدول الخمس، بفرض اكتماله قانونا بتصديق الأجهزة الداخلية المختصة فى هذه الدول عليه، لن يكون ملزما إلا لهذه الدول فقط، ولن تمتد آثاره القانونية بأى شكل من الأشكال إلى مصر أو السودان، كما أنه لن يؤثر على الاتفاقات القائمة المنظمة لاستخدام مياه النيل نظرا لاختلاف الأطراف فى هذه الاتفاقات عن أطراف الاتفاق الجديد.
أما فيما يتعلق بالتساؤل الثالث الخاص بالأسانيد التى تدعم الموقف المصرى السودانى فى هذا الصدد، فلعل أهمها ما يتعلق بالحقوق التاريخية المكتسبة والاتفاقات القائمة. ولقد جاء تمسك مصر والسودان بنص المادة 14B سالفة الإشارة، والتى تتحدث عن «الأمن المائى» والاستخدامات الحالية باعتبار أن ذلك يمثل البديل الوحيد المقبول للنص على «الحقوق التاريخية المكتسبة» التى تكفلها للدولتين جميع الاتفاقيات الخاصة بنهر النيل. وحتى لا يفهم من توقيع مصر والسودان على الاتفاقية دون هذا النص أنه تنازل منهما عن الاتفاقيات السابقة والتى تؤكد على هذه الحقوق.
والواقع أن التاريخ يعد عنصرا أساسيا من عناصر الحق فى استغلال مياه الأنهار الدولية، وذلك من خلال النظر إلى الطرق التى تم بها اقتسام وتوزيع حصص المياه بين الدول المعنية خلال حقب التاريخ السابقة. والحق التاريخى فى مياه النهر هو ولاية معينة لدولة ما فى أن تحصل على أو تستعمل كمية من المياه وأن تحافظ على الحصول على تلك الكمية على الدوام وفقا لما جرى عليه التوزيع السابق والمستقر طالما بقيت الظروف والأوضاع على حالها. وهى قاعدة عرفية جرى عليها العمل الدولى من أزمان طويلة.
والدول وفقا لهذه القاعدة ملزمة باحترام حقوق بعضها البعض فى مياه الأنهار الدولية بنفس القدر أو الكمية أو الحصة السنوية التى اعتادت الحصول عليها منذ استقر السكان على ضفاف النهر. ومرد ذلك أن هؤلاء السكان اعتادوا على حياة معينة قوامها مياه النهر وأن أى تغيير فى هذه الكمية نحو النقص يؤدى بالضرورة إلى اضطراب فى حياتهم، الأمر الذى قد يهدد السلم والأمن الدوليين فى حالة ما إذا أدى إلى احتكاك بين الدول والشعوب فى هذا الشأن.
ومن ثم فإن التوزيع السابق للمياه (الحقوق التاريخية) يجب أن يحترم وأن تتم المحافظة عليه لأن مرور وقت طويل على هذا التوزيع ورضا الدول المشاطئة به يعبر عن المساواة فى معناها الحقيقى وعن التوزيع العادل والمنصف فعلا لهذه المياه.
والحق أن مبدأ «الحقوق التاريخية» هذا هو من المبادئ المستقرة فى القانون الدولى، حيث أكدت عليه على سبيل المثال كل من قواعد هلسنكى 1966 فى مادتها الخامسة، واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 فى مادتها السادسة، وقواعد برلين 2004 فى مادتها الثالثة عشرة. كما جرى القضاء الدولى والقضاء فى الدول الاتحادية على الأخذ به، سواء فيما يتعلق باكتساب الإقليم والسيادة عليه (فى البر والبحر)، أو فيما يتعلق بحقوق الاستخدام والاستغلال، ما دامت قد توافرت فيه شروط الظهور وطول المدة وعدم اعتراض ذوى المصلحة.
وهى الشروط التى انتهت إليها محكمة العدل الدولية فى حكمها فى قضية المصائد النرويجية لعام 1951حين قررت أن ثمة شروطا ثلاثة يتعين توافرها للاعتداد بهذه الحقوق، وهى وجود ممارسة ظاهرة ومستمرة للحق، يقابلها موقف سلبى من الدول الأخرى صاحبة المصلحة، مع استمرار هذا الموقف السلبى لفترة زمنية كافية لاستخلاص قرينة التسامح أو الرضا العام. ويبين هذا المبدأ الكيفية التى ارتضتها الدول المشاطئة للنهر الدولى فى اقتسام مياهه على مدى تاريخها، وهو ما يعد أمرا شديد الأهمية لتحقيق السلم والأمن الدوليين لصلته الوثيقة بالمصالح المباشرة للدول التى تعتمد على مياه الأنهار الدولية فى نموها الاقتصادى والاجتماعى.
والواقع أن تمسك مصر والسودان بحقوقهما التاريخية فى مياه النيل ليس مرده إلى ما ورد بشأن هذه الحقوق فى اتفاقيات نهر النيل، لاسيما اتفاقيتى 1929 و1959، فحسب وإنما هو أبعد من ذلك بكثير. فمرده أساسا إلى استعمال ظاهر لمياه النيل لآلاف السنين لا يعوقه عائق على الإطلاق، قامت عليه أقدم حضارة فى التاريخ دون وجود بديل حقيقى له، ودونما اعتراض من أى أحد كان مقيما طوال هذه الآلاف من السنين على ضفاف النهر، سيما وأن المقيمين عليها خارج مصر كانوا بغير حاجة إليها لإفراط المطر حيث يقيمون. وبالتالى فإن تمسك مصر، ومعها السودان، بهذه الحقوق ليس تمسكا بما ورد فى شأنها فى اتفاقيات النهر وإنما هو تمسك بحق ثابت منذ آلاف السنين، لم تنشئه الاتفاقات القائمة وإنما كشفت عنه فحسب.
وتجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أنه ليس من المنطق فى شىء أن تتفق الدول الأفريقية حديثة العهد بالاستقلال فى أوائل الستينيات من القرن الماضى عند إنشائها لمنظمة الوحدة الأفريقية على التسليم بالحدود المتوارثة عن الاستعمار بالرغم مما بها من عيوب وتشوهات، حفاظا على الاستقرار فى العلاقات الدولية، ثم تثير بعض دول حوض النيل مسألة أن اتفاقات النهر هى اتفاقات استعمارية وأنها بالتالى غير ملزمة بها، متناسية أن حقوق مصر فيها ليس مردها إلى هذه الاتفاقات فحسب، وإنما إلى استعمال دائم ومستمر وظاهر ومستقر لآلاف السنين السابقة.
وأن الحديث عنها يهدد فعلا الاستقرار والعلاقات بين دول الحوض. فضلا عن أن اتفاقات الحدود والاتفاقات المنظمة لأوضاع إقليمية وذات الطبيعة العينية ــ كاتفاقات نهر النيل ــ تنتفى إمكانية التحلل منها قانونا استنادا إلى دعاوى التغير الجوهرى للظروف أو القول بمبدأ الصفحة النظيفة الذى تمسكت به الدول حديثة العهد بالاستقلال، وهو ما أوردته بوضوح كامل كل من اتفاقية فيينا بشأن قانون المعاهدات لعام 1969، واتفاقية الأمم المتحدة للتوارث الدولى فى المعاهدات لعام 1978، وهو ما قد يكون موضوعا لمقال مستقل.